حياة كوكب الشرق الخاصة ( ام كلثوم )
جنسانية الهرم الرابع: تفكيك السرديات التاريخية والاجتماعية حول الهوية الجندرية والحياة الخاصة لأم كلثوم
ملخص تنفيذي
يُعد هذا التقرير البحثي دراسة استقصائية شاملة ومعمقة تتناول واحدة من أكثر القضايا إثارة للجدل والصمت في التاريخ الثقافي العربي الحديث: الهوية الجندرية والجنسانية لسيدة الغناء العربي، أم كلثوم. ينطلق التقرير من التساؤل الجريء الذي طُرح مراراً في الأوساط الأكاديمية الغربية ومؤخراً في النقد الثقافي العربي: "هل كانت أم كلثوم مثلية الجنس؟". يتجاوز هذا البحث حدود الإجابة بنعم أو لا، ليغوص في تحليل البنى الاجتماعية، والظروف التاريخية، والخيارات الفنية التي شكلت "أسطورة أم كلثوم" ككيان متعالٍ عن الرغبة الجسدية. يعتمد التقرير على منهجية التحليل التاريخي المقارن، مستنداً إلى أرشيف ضخم من السير الذاتية، والدراسات الإثنو-موسيقية، والشهادات الصحفية، مع التركيز على أعمال باحثين محوريين مثل فرجينيا دانيلسون وموسى الشديدي. يهدف التقرير إلى تقديم قراءة سوسيولوجية لحياة "الست" الخاصة، بدءاً من تنكرها في زي الصبيان، مروراً بزيجاتها الإشكالية، وصولاً إلى علاقاتها النسائية الحميمة، وذلك في سياق تحولات المجتمع المصري من الليبرالية الملكية إلى القومية الناصرية.
الفصل الأول: التكوين الجندري الملتبس.. من "الطفلة المعجزة" إلى "الصبي المنشد"
لفهم التعقيدات المحيطة بجنسانية أم كلثوم، لا بد من العودة إلى الجذور الأولى لتشكل هويتها في ريف مصر، حيث لم يكن "الجندر" مجرد هوية بيولوجية، بل أداءً اجتماعياً فرضته ضرورات العيش والأعراف الدينية.
1.1 التنكر كاستراتيجية بقاء اقتصادي واجتماعي
ولدت فاطمة إبراهيم البلتاجي في قرية طماي الزهايرة في بيئة فلاحية محافظة. في تلك الفترة (بدايات القرن العشرين)، كان الغناء "الدنيوي" للنساء مرتبطاً بطبقة "العوالم" التي كان يُنظر إليها بريبة أخلاقية، بينما كان الإنشاد الديني حكراً على الرجال. اكتشف والدها، الشيخ إبراهيم، موهبتها الفذة، لكنه اصطدم بحاجز العرف الاجتماعي الذي يمنع فتاة من الجلوس وسط الرجال للإنشاد.
كان الحل العبقري، والمدمر نفسياً في آن واحد، هو "إعادة هندسة جندرية" للطفلة. أجبر الأب ابنته على ارتداء "العقال" و"الجبة" و"القفطان"، وهي ملابس ذكورية خالصة، لتقديمها للجمهور كـ "صبي" ذي صوت ملائكي. هذا التنكر لم يكن مجرد زي مسرحي، بل امتد ليصبح أسلوب حياة يومي لسنوات طويلة خلال طفولتها ومراهقتها. تشير المصادر التاريخية إلى أن هذا الوضع استمر حتى سن السادسة عشرة أو ربما أكثر، حيث كانت تتجول وتنام وتسافر بزيها الذكوري.
يحلل الباحثون هذه المرحلة باعتبارها التأسيس الأول لما يمكن تسميته "الجنس الثالث" لدى أم كلثوم. لقد تعلمت في سن مبكرة أن "الأنوثة" عائق أمام المجد، وأن "الذكورة" (أو التظاهر بها) هي بوابة العبور إلى الفضاء العام. هذا الدرس المبكر خلق شرخاً بين صوتها (الذي بدأ ينضج كصوت أنثوي قوي) وبين جسدها (الذي تم إخفاؤه وطمس معالمه قسراً).
1.2 "الست" والمنديل: لحظة الانتقال والتوتر الجندري
عندما انتقلت العائلة إلى القاهرة في عشرينيات القرن الماضي، بدأت أم كلثوم تدرك أن زي الصبيان لم يعد مناسباً للمسارح الكبرى وللمجتمع القاهري الحديث. ومع ذلك، كان الانتقال إلى "الزي النسائي" عملية شاقة ومحفوفة بالخوف. تذكر الباحثة إيزابيل صياح في دراستها أن أم كلثوم، في أول حفلة ارتدت فيها فستاناً نسائياً، شعرت بعري وتوتر شديدين أمام والدها وأخيها والجمهور.
هنا تبرز رمزية "المنديل". أمسكت أم كلثوم بمنديل في يدها لتفريغ التوتر العصبي الناتج عن هذا التحول الجندري. تحول المنديل من مجرد قطعة قماش إلى "درع نفسي" وجزء لا يتجزأ من أيقونتها، وشاهد أبدي على القلق الذي صاحب استعادتها لأنوثتها الظاهرية. لم يكن المنديل ترفاً، بل كان "عكازاً" تستند عليه امرأة اعتادت أن تكون رجلاً في الفضاء العام.
حتى بعد ارتدائها الفساتين، حافظت أم كلثوم على نمط محتشم للغاية (أكمام طويلة، ياقات عالية)، مبتعدة تماماً عن نمط "الأنوثة الغاوية" الذي كانت تمثله منافستها منيرة المهدية. لقد صاغت لنفسها صورة "السيدة المحترمة" (The Virtuous Lady)، وهي صورة كانت، في جوهرها، محاولة لنفي الجنسانية عن جسدها وتكريس الصوت فقط.
الفصل الثاني: جدلية الصوت.. "خنثوية" الأداء وتجاوز الثنائية
لم يكن الالتباس الجندري مقتصراً على المظهر، بل امتد إلى "فيسيولوجيا الصوت" وطبيعة الأداء، وهو ما جعلها موضوعاً لخيالات متباينة من قبل جمهورها.
2.1 هدى بركات وصوت "الكل"
تقدم الروائية اللبنانية هدى بركات تحليلاً سيكولوجياً وفنياً فريداً لصوت أم كلثوم في مقال نقدي، حيث تصفه بأنه صوت "لا جنسي، ولكنه ثنائي الجنس أيضاً" (Asexual, but bisexual too). تجادل بركات بأن صوت أم كلثوم يمتلك القدرة على التحليق في طبقات عالية جداً (كأنثى) والهبوط إلى قرارات عميقة جداً (كرجل)، مما يجعله صوتاً "شمولياً".
تقول بركات: "النساء يسمعنها كرجل، والرجال يسمعونها كامرأة... صوتها يحمل غضب المرأة واستسلام الرجل". هذا التحليل يفتح الباب لفهم لماذا أصبحت أم كلثوم معشوقة الجماهير بغض النظر عن ميولهم؛ فهي تقدم مساحة صوتية آمنة يمكن للجميع إسقاط رغباتهم عليها. بالنسبة للمثليات، قد يكون صوتها القوي والمسيطر تجسيداً لقوة المرأة المستقلة؛ وبالنسبة للرجال، هي الأم والحبيبة المتمنعة.
2.2 اللغة الشعرية والخطاب المذكر
من الملاحظات الهامة التي يعتمد عليها باحثو دراسات الجندر، مثل موسى الشديدي وإسلام رفعي، هو استخدام أم كلثوم المستمر لضمائر التذكير في أغانيها. على الرغم من أن هذا تقليد شعري عربي كلاسيكي (مخاطبة المحبوب بصيغة المذكر للتعميم أو التستر)، إلا أن إصرار أم كلثوم عليه، ورفضها تغيير الضمائر في كثير من القصائد، ساهم في تعزيز حالة "الغموض الجنسي".
في أغنية "الأطلال" مثلاً، تغني بقوة وجبروت "واثق الخطوة يمشي ملكاً"، متقمصة دوراً يتجاوز الخضوع الأنثوي التقليدي في أغاني الحب العربية. يرى الباحثون أن هذا الأداء سمح لها بتبني "سلطة ذكورية" على المسرح، مما جعلها تخرج من إطار "المرأة التي تغني للرجل" لتصبح "الكيان الذي يغني للجميع".
الفصل الثالث: الرجال في حياة "الست".. زيجات الضرورة والحب المستحيل
تُعد الحياة الزوجية لأم كلثوم أحد أهم المحاور التي يستند إليها المشككون في ميولها الجنسية المعيارية. عند تفحص زيجاتها وعلاقاتها بالرجال، نجد نمطاً متكرراً من العلاقات "الوظيفية"، أو المجهضة، أو الصورية، مما يطرح تساؤلات حول طبيعة رغبتها تجاه الرجال.
جدول تحليلي: العلاقات الزوجية والعاطفية في حياة أم كلثوم
| الشريك / الزوج | الفترة الزمنية | طبيعة العلاقة | السياق والدلالة الجندرية | المصادر |
|---|---|---|---|---|
| الشيخ عبد الرحيم | بدايات المسيرة | زواج صوري (على الورق) | تم التحايل على القانون للسفر إلى العراق لإحياء حفلات. لم يحدث أي تواصل جسدي وتم الطلاق فور العودة. يؤكد أولوية المهنة على العاطفة. | |
| محمود الشريف (الملحن) | الأربعينيات (1946 تقريباً) | خطوبة / زواج قصير جداً | قصة الحب الوحيدة المعلنة. انتهت بفسخ الخطوبة (أو الطلاق) بأوامر عليا (قيل من القصر الملكي). تسبب الفشل في "جرح نرجسي" وانسحاب عاطفي. | |
| الدكتور حسن الحفناوي | 1954 - 1975 | زواج طويل الأمد | زواج تم وهي في سن الـ 56 تقريباً. الحفناوي كان طبيبها الخاص ويصغرها بسنوات، ولديه أطفال من زوجة أخرى. يوصف بأنه "زواج عقل" ورفقة. | |
| شفيق السمزي (غير مؤكد كزوج) | غير محدد | صداقة / إعجاب | يذكر في سياق علاقاتها الاجتماعية، لكن لا توجد أدلة على علاقة رومانسية مكتملة. | |
3.1 تحليل "زواج الستار" (The Lavender Marriage)
في عام 1954، تزوجت أم كلثوم من الدكتور حسن الحفناوي. هذا الزواج يثير اهتمام الباحثين لعدة أسباب:
* التوقيت المتأخر: تزوجت في سن تجاوزت فيه مرحلة الإنجاب وتأسيس العائلة التقليدية.
* شخصية الزوج: كان طبيبها المعالج للأمراض الجلدية والغدة الدرقية، مما يجعله "مرافقاً صحياً" بقدر ما هو زوج.
* طبيعة الحياة الزوجية: تشير التقارير الصحفية والمقربون إلى أن الحياة بينهما كانت هادئة جداً، خالية من العاطفة المتأججة، وأقرب إلى الشراكة الصديقة. نام الزوجان في غرف منفصلة في كثير من الأحيان.
تطرح الباحثة فرجينيا دانيلسون وموسى الشديدي فرضية أن هذا الزواج كان "زواج ستار" (Lavender Marriage)؛ وهو مصطلح يستخدم لوصف زيجات المشاهير التي تعقد لإخفاء ميول مثلية أو لدرء الشائعات وحماية الصورة العامة. في مجتمع محافظ مثل مصر، كان بقاء "الست" عزباء حتى النهاية سيثير الكثير من التساؤلات، لذا كان الزواج من رجل محترم ومقرب (طبيبها) هو الحل الأمثل لإسكات الألسنة والحصول على "رخصة اجتماعية" للحركة بحرية.
3.2 فشل الحب الرومانسي مع محمود الشريف
قصة ارتباطها بالملحن محمود الشريف هي الاستثناء الذي يثبت القاعدة. كانت هذه هي المرة الوحيدة التي بدت فيها أم كلثوم مندفعة عاطفياً تجاه رجل. لكن النهاية المأساوية والسريعة للعلاقة (التي انتهت ببيان مقتضب وفسخ للخطوبة) تركت أثراً عميقاً. صرح الشريف لاحقاً ببرود أنه "لم يتأثر" وأن حياته استمرت بسعادة مع زوجته الأولى، مما قد يشير إلى أن أم كلثوم هي التي كانت تبحث عن الاستقرار، أو أن الفروق الطبقية والاجتماعية (كونها قمة الهرم الفني وهو ملحن أقل شهرة حينها) جعلت العلاقة مستحيلة. هذا الفشل ربما أقنع أم كلثوم بأن "الزواج الرومانسي" خيار غير متاح لامرأة في مكانتها وقوتها، فقررت لاحقاً اللجوء لـ "زواج العقل" مع الحفناوي.
الفصل الرابع: العالم السري للنساء.. الصديقات، الحميمية، وشائعات المثلية
إذا كان عالم الرجال في حياة أم كلثوم يتسم بالرسمية والبرود، فإن عالم النساء كان يضج بالحياة، والدفء، والقرب الشديد. هذا التباين الصارخ هو التربة الخصبة التي نبتت فيها فرضيات المثلية الجنسية.
4.1 الحاشية النسائية (The Female Inner Circle)
كانت أم كلثوم محاطة دائماً بدائرة مغلقة من النساء اللواتي لعبن أدواراً محورية في حياتها النفسية واليومية. تكشف المصادر عن أسماء محددة :
* مدام سميحة: توصف بأنها "أقرب صديقات أم كلثوم" ورفيقة سنواتها الأخيرة. كانت العلاقة بينهما تتسم بتلاصق شديد، حيث ترافقها في السفر، والسهرات الخاصة، وحتى التفاصيل المنزلية الدقيقة.
* مدام عبدية: سيدة من الأرستقراطية القديمة، وصفت بأنها تحب أم كلثوم لدرجة "العبادة"، ومستعدة للتحول إلى "نمرة شرسة" للدفاع عنها. صرحت بأنها "صديقة العمر" التي تعرف كل الأسرار.
* حورية (اليونانية): تشير الكاتبة إيزابيل صياح في كتابها إلى صديقة يونانية تدعى "حورية"، كانت مقربة جداً وتلعب دوراً روحانياً في تفسير أحلام أم كلثوم. تلمح صياح بوضوح إلى أن أم كلثوم "لم تكن تشعر بأنوثتها إلا مع النساء الصديقات".
4.2 شهادة فرجينيا دانيلسون: "من المرجح جداً"
في سياق البحث الأكاديمي، تُعتبر شهادة الدكتورة فرجينيا دانيلسون (مؤلفة أهم سيرة ذاتية عن أم كلثوم بالإنجليزية "The Voice of Egypt") الأكثر وزناً. في مقابلة مع صحيفة "الجارديان"، كسرت دانيلسون حاجز الصمت الأكاديمي وقالت بوضوح:
> "كانت أم كلثوم محاطة باستمرار بنساء محددات (Particular women) وأظهرت اهتماماً ضئيلاً بالرجال. من المرجح جداً جداً أنها كانت تقيم علاقات مع نساء (It is very, very likely she had relationships with women)".
>
تستند دانيلسون في استنتاجها هذا إلى سنوات من البحث الميداني في مصر ومقابلات مع معاصري أم كلثوم، ملاحظةً أن نمط الحياة "الحريمي" الخاص بأم كلثوم كان يتجاوز الصداقة التقليدية إلى نوع من "الشراكة الحياتية" التي تغني عن وجود الرجل.
4.3 جدل الصورة والقبلة: بين العادة الاجتماعية والميول الجنسية
انتشرت سرديات وشائعات حول صور تظهر أم كلثوم في أوضاع حميمة مع نساء (مثل التقبيل من الفم).
* سياق "الحميمية الاجتماعية" (Homosociality): يجب الحذر عند تفسير هذه الصور بعيون غربية معاصرة. في مصر، وحتى وقت قريب، كان تقبيل النساء لبعضهن من الفم، أو المشي متشابكات الأيدي، أو النوم في سرير واحد، يعتبر سلوكاً اجتماعياً مقبولاً دلالة على المودة والصداقة العميقة، ولا يحمل بالضرورة دلالات جنسية (Lesbianism).
* شائعة "سعدية": مؤخراً، انتشرت صورة (تبين أنها مولدة بالذكاء الاصطناعي) لأم كلثوم تحتضن فتاة قيل إنها ابنتها السرية "سعدية". ورغم نفي العائلة القاطع لوجود أي ابنة، إلا أن رواج الشائعة يعكس رغبة الجمهور في ملء الفراغ العاطفي في سيرة "الست"، تارة باختراع ابنة، وتارة بالحديث عن علاقات سرية.
الفصل الخامس: الجدل الثقافي الحديث.. كتاب "جنسانية أم كلثوم" وردود الفعل
لم تعد مسألة جنسانية أم كلثوم مجرد نميمة، بل تحولت إلى مادة للنقد الثقافي الجاد، خاصة مع صدور كتاب الباحث العراقي موسى الشديدي "جنسانية أم كلثوم" في 2019.
5.1 أطروحة موسى الشديدي: استعادة الجسد المفقود
يقوم كتاب الشديدي على فكرة مركزية: "لقد تم تجريد أم كلثوم من جنسانيتها لصالح الرمز". يجادل الشديدي بأن المجتمع الذكوري والدولة لم يستطيعوا التعامل مع امرأة بهذه القوة، فقاموا بـ "تعقيمها" جنسياً، وتحويلها إلى "هرم" أو "كوكب" بعيد المنال.
* الأدلة التي يسوقها الكتاب: يعتمد الشديدي على تحليل خطابات الصحافة، وصورها، وكلمات أغانيها، وشهادات المقربين. يشير إلى أن أم كلثوم لم تلتزم بـ "المعيارية الغيرية" (Heteronormativity) في أي مرحلة من حياتها؛ فهي لم تكن زوجة خاضعة، ولا أماً، ولا "أنثى" بالمعنى الإغرائي.
* الخلاصة: لا يجزم الكتاب بأنها كانت "مثلية" بالمعنى الهوياتي الحديث، لكنه يؤكد أنها كانت "كويرية" (Queer) بمعنى أنها عاشت خارج القوالب الجنسية المألوفة، وأن علاقاتها العاطفية الحقيقية كانت موجهة نحو النساء أو نحو فنها، وليس الرجال.
5.2 ردود الفعل: بين المنع والقبول
أحدث الكتاب، والمقالات المرتبطة به في مجلة "My.Kali" الأردنية (التي تعنى بقضايا الكويرية في الشرق الأوسط)، زلزالاً ثقافياً. قامت الحكومة الأردنية بحجب موقع المجلة بعد نشر مقال عن مثلية أم كلثوم، مما يثبت أن "جنسانية الست" لا تزال تابوهاً سياسياً ودينياً يمس الهوية القومية.
في مصر، قوبل الطرح برفض واسع من قبل المحافظين ومحبي أم كلثوم الذين اعتبروا الأمر "تشويهاً للرموز" و"تعدياً على الخصوصية". ومع ذلك، وجد الطرح صدى لدى جيل جديد من القراء والباحثين الذين يرون في أم كلثوم أيقونة نسوية وكويرية سابقة لزمنها.
الفصل السادس: السياسة والأسطورة.. لماذا يجب أن تكون أم كلثوم "لا جنسية"؟
لا يمكن فصل الهالة المقدسة حول حياة أم كلثوم عن الدور السياسي الذي لعبته، خاصة في الحقبة الناصرية.
6.1 أم كلثوم كمشروع قومي
في عهد جمال عبد الناصر، تحولت أم كلثوم من مجرد مطربة إلى "صوت الأمة". كانت حفلاتها الشهرية طقساً يجمع العرب من المحيط إلى الخليج. لكي تلعب هذا الدور، كان يجب أن تكون "فوق الشبهات". الأيقونة القومية يجب أن تكون "أماً للجميع" ولكن "ليست ملكاً لأحد".
أي حديث عن رغبات جسدية، سواء كانت غيرية أو مثلية، كان سيحط من قدر هذا الرمز. لذا، تواطأت الدولة، والإعلام، وأم كلثوم نفسها، على بناء صورة "المرأة المحتشمة، المتدينة، بنت الريف الأصيلة"، وطمس أي تفاصيل شخصية قد تخدش هذه الصورة.
6.2 مقارنة مع النجمات المعاصرات
* أسمهان: عاشت حياة صاخبة، مليئة بالرجال والمغامرات والغموض، وانتهت نهاية مأساوية. ظلت في الذاكرة كـ "امرأة فاتنة" ولكن ليس كـ "رمز قومي" موقر.
* ليلى مراد: عانت من شائعات حول يهوديتها وولائها، وكانت حياتها الزوجية تحت المجهر.
* أم كلثوم: نجت من هذا المصير عبر "التحكم الصارم" في صورتها العامة، وإبعاد حياتها الخاصة تماماً عن الإعلام، والتمسك بوقار المظهر والسلوك.
الفصل السابع: زينب الغزالي وأم كلثوم.. وجوه القوة النسائية المتناقضة
تظهر في نتائج البحث إشارات متكررة للمقارنة بين أم كلثوم والداعية الإسلامية زينب الغزالي. رغم التناقض الظاهري (الفن مقابل الدين)، إلا أن هناك تقاطعات جندرية مثيرة للاهتمام.
7.1 السلطة النسائية في المجال العام
كلاهما (أم كلثوم وزينب الغزالي) مثلتا نموذجاً للمرأة القوية التي اقتحمت المجال العام (الفن والسياسة/الدعوة) الذي كان يهيمن عليه الرجال.
* زينب الغزالي: أسست جمعية السيدات المسلمات، ومارست السياسة، وسجنت، مقدمة نموذجاً "إسلامياً" للقوة النسائية، لكنها ظلت تؤكد على أولوية الأسرة وطاعة الزوج نظرياً، بينما مارست قيادة فعلية عملياً.
* أم كلثوم: مارست سلطة مطلقة في مجالها (رئاسة نقابة الموسيقيين)، وتجاوزت الرجال في النفوذ والثروة.
المقارنة هنا تكمن في أن كلتيهما اضطرتا لتبني استراتيجيات معينة للتعامل مع المجتمع الذكوري: زينب عبر الغطاء الديني، وأم كلثوم عبر "الغموض الجنسي" والوقار القومي.
الخاتمة: أم كلثوم.. أيقونة الكويرية غير المعلنة
في ختام هذا التقرير، وبالعودة إلى السؤال الجوهري: "هل كانت أم كلثوم مثلية الجنس؟"، نخلص إلى النتائج التالية:
* غياب الدليل المادي القاطع: لا توجد مذكرات سرية أو اعترافات أو وثائق تثبت ممارسة جنسية مثلية. التاريخ الرسمي صامت تماماً.
* قوة الأدلة الظرفية (Circumstantial Evidence): إن تضافر الأدلة السلوكية (التنكر في زي الرجال، تأخر الزواج، الزواج الصوري، الحاشية النسائية المقربة، النفور من العلاقات الرومانسية التقليدية مع الرجال) يشير بقوة إلى أن أم كلثوم لم تكن "غيرية" (Heterosexual) بالمعنى النمطي.
* إجماع الباحثين الجدد: يميل الباحثون المعاصرون (دانيلسون، الشديدي، بركات) إلى قراءة حياة أم كلثوم باعتبارها حياة "كويرية" أو مثلية، سواء كانت ممارسة فعلية أو هوية عاطفية. يرون أن علاقاتها العميقة والحقيقية كانت مع النساء، بينما كان الرجال واجهات اجتماعية أو شركاء عمل.
* الهوية كأداء: لعل العبقرية الحقيقية لأم كلثوم تكمن في قدرتها على التلاعب بالهوية الجندرية. لقد كانت رجلاً عندما تطلب الأمر، وامرأة عندما تطلب الفن، وعاشقة مجهولة الهوية في أغانيها. هذا الغموض هو ما ضمن لها الخلود، وجعلها اليوم أيقونة لمجتمع الميم (LGBTQ+) في العالم العربي، الذين يرون في صمتها وقوتها واختلافها مرآة لمعاناتهم وتحديهم للمعايير السائدة.
إن أم كلثوم، في التحليل النهائي، قد تكون عاشت حياة مثلية سرية، أو قد تكون كرست جنسانيتها بالكامل لفنها (Sublimation). في كلتا الحالتين، هي تمثل تمرداً صارخاً على القوالب الجاهزة للمرأة العربية، وستظل حياتها الخاصة لغزاً عصياً على الحل النهائي، وهو بالضبط ما أرادته "الست".

تعليقات
إرسال تعليق